في قرية مداغ الصغيرة بشرق المغرب، حيث تمتزج رائحة التراب بنفحات الذكر، نشأ سيدي منير القادري بودشيش في أحضان الزاوية، بين رجال عكفوا على الذكر والسلوك والتربية الروحية. هناك، لم يكن التصوف مجرد كلمات تُتلى، بل حياة تُعاش، ومسلك يسري في العروق.
منذ نعومة أظافره، وجد سيدي منير نفسه محاطًا بعبق السلوك القادري، وتحت عين والده، سيدي جمال القادري بودشيش، الذي غرس فيه القيم الصوفية الأصيلة: المحبة، التواضع، والإخلاص. لم يكن الطريق سهلًا، لكنه كان واضحًا. فسنوات التكوين، بين العلم والسلوك، شكّلت شخصية فريدة، تجمع بين عمق الروح وبصيرة الواقع.
لم يكن تتويج سيدي منير خليفةً روحيا للطريقة القادرية البودشيشية مجرد إعلان، بل لحظة روحية عميقة، جرت وقائعها في ليلة مهيبة بمناسبة الذكرى السنوية لوفاة القطب الكبير سيدي حمزة القادري بودشيش. وسط المريدين، وفي حضرة الذكر، أعلن سيدي جمال، وبكل وضوح، أن ابنه منير هو وارث السرّ الروحي للطريقة. تلك اللحظة لم تكن انتقالًا للقيادة فحسب، بل تجديدًا للعهد، واستمرارية لمسار روحي عريق.
لم يتوقف سيدي منير عند حدود الزاوية، بل انطلق برسالته إلى الآفاق. داخل المغرب، أشرف على تنظيم الملتقى العالمي للتصوف الذي أصبح فضاءً مفتوحًا للقاء العارفين والمفكرين من مختلف بقاع العالم. ومن خلاله، استطاع أن يربط بين الروح والتفكير، بين الإيمان والعمل، في مشهد حضاري متفرّد.
أما في فرنسا، حيث يعيش الكثير من المغاربة، حمل معه رسالة التصوف كأداة للحوار، والتعايش، ومواجهة التطرف. كانت محاضراته وجولاته فرصة لتقديم الإسلام في صورته الروحية النقية، ولبناء جسور بين الجالية وهويتها، وبينها وبين المجتمع الذي تعيش فيه.
ما يميز سيدي منير، ليس فقط كونه شيخ طريقة، بل كونه صوتًا روحيًا إنسانيًا يرى أن التصوف يتجاوز الزمان والمكان، والدين والعرق. هو دعوة إلى العودة إلى الذات، وإصلاح القلب، والتفاعل مع العالم برحمة.
في خطاباته، يستشعر المستمع تلك الحكمة الهادئة، والرؤية الواسعة التي تبحث عن الإنسان داخل كل إنسان. لذلك لا يتحدث عن التصوف كتراث، بل كحياة، وكأمل في عالم تملأه الضوضاء والصراعات.
من مداغ انطلقت الرسالة، ومن قلب الزاوية تفتّحت أبواب الروح. وسيدي منير القادري بودشيش، بروحه الهادئة، وكلماته العميقة، لا يزال يحمل مشعل التصوف، في زمن يحتاج فيه الناس أكثر من أي وقت مضى إلى المعنى، إلى السكينة، وإلى من يذكّرهم بأن في داخل كل إنسان نورًا ينتظر أن يُضاء.
.